فصل: باب: سنة الوضوء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: سنة الوضوء:

76- ذكر الشافعي في هذا الباب سننه وفرائضه. وابتدأ بغسل اليدين ثلاثاً في ابتداء الوضوء.
فيستحب للمتوضىء أن يغسل يديه ثلاثاً، قبل غمسهما في الإناء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده». خاطب بهذا العربَ، وكانت قد تقتصر في الاستجمار على الأحجار لعزّة الماء عندهم. وربما كانت تطوف أيديهم على ما تحت الإزار، أو على بثراتٍ بأبدانهم، فتتنجس وهم لا يشعرون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل اليدين قبل غمسهما احتياطاً واستظهاراً.
ثم قال الأئمة: هذه السنة قائمة، وإن استيقن المرءُ طهارة يديه، ولا فرق بين أن يستيقظ من نوم، وبين أن يُقدم على الوضوء عن دوام اليقظة. والذي يحقق هذا أنه عليه السلام ذكر إمكان تَطواف اليد على البدن، وقد يوجد ذلك من المستيقظ في غفلاته، ولعل ذلك أكثر وقوعاً من المتيقظ في تصرفاته وحركاته. وإنما جرى ذكرُ النوم؛ لأنه مظنة الغفلة غالباً، وفي ذكر السبب المترتب على النوم ما يشعر بتعميم المعنى.
ولو استيقن المتوضىء طهارة يديه، فغسْلُ اليدين سنةٌ في حقه أيضاً، والسبب فيه أن أسباب النجاسة قد يخفى دركها على معظم الناس، فيعتقد المعتقد الطهارة على وجهٍ يرى اعتقادَه يقيناً، وليس الأمر على ما يعتقده، فاطّردت السنّة على الناس كافة.
وهذه كالعدّة المنوطة بالوطء، فإنها تجب لتبرئة الرحم، وقد تجب مع القطع ببراءة الرحم؛ تعميماً للباب، وسيجري تقرير هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال بعض المصنفين: "إذا استيقن المرء طهارة يديه، فلا عليه لو غمس يديه، ولكنا نستحب غسلَ اليدين مع هذا". وهذا عندي خطأ. فليتقدَّم غسلُ اليدين على غمسهما؛ إذ الغرضُ تعميمُ رعايةِ الاحتياط في حقوق الناس، وذلك يتعلق بالماء. ولو كان يتوضأ من قمقمةٍ، فيستحب غسلُ اليدين احتياطاً للماء الذي يصبّه على يديه، وينقله إلى أعضاء وضوئه.
77- ثم ذكر الشافعي استحباب التسمية، فإذا أراد المتوضىء استفتاحَ الوضوء فينبغي أن يقول بسم الله. قال النبي عليه السلام: «لا وضوءَ لمن لم يقل باسم الله». والتسمية سنة؛ لا يبطل الوضوء بتركها سهواً ولا عمدا.
فصل:
قال الشافعي: "ويغرف غُرفةً لفيه وأنفه... إلى آخره".
78- المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء والغسل جميعاً.
ثم الذي نقله المزني أنه يغرف غرفة لفيه وأنفه، فذكر أنه يقتصر على غُرفةِ واحدة لهما.
ونقل البويطي عن الشافعي أنه يغرف غرفة لفيه و غُرفة لأنفه.
فاختلف أئمتنا، فقال بعضهم: في المسألة قولان:
أحدهما: الأوْلى الاقتصارُ على غُرفةٍ واحدة، توقِّياً من السرف في استعمال الماء؛ إذ هما كشيء واحد، وبذلك لا يَغرف لكل مرّة من مرّات المضمضة غُرفة، ويأخذ لكل غسلة من غسلات وجهه غُرفة.
والثاني: أنه يأخذ غُرفتين؛ فإن المضمضة والاستنشاق سنتان مُتعلقتان بعضوين.
وقال بعض الأئمة: ما نقله المُزني محمولٌ على الأقل. وما نقله البويطي محمول على الأكمل.
وقد روى عبدُ الله بنُ زيد وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر «أنه غَرف غُرفة واحدة لهما».
وروى عثمانُ وعليٌّ رضي الله عنهما وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا «إنه غرف غرفة لفيه وغرفة لأنفه».
فإن قلنا: يغرف غُرفةً لفيه وغُرفة لأنفه، فينبغي أن يقدّم المضمضة، فيتمضمض ثلاثاًً بغُرفة، ثم يستنشق ثلاثاًً بغُرفة.
79- وهذا الترتيب مستحقٌ أو مستحب؟ فعلى وجهين، ذكرهما شيخي:
أحدهما: أنه مشروط؛ فإنهما سنتان في عضوين مختلفين.
والثاني: ليس مشروطاً، ولكنّه مستحب، كتقديم اليمين على اليسار.
وإن حكمنا بأنه يغرف لهما غُرفة واحدة، فقد قال العراقيون تفريعاً على ذلك: ينبغي أن يخلط المضمضة والاستنشاق، فيتمضمض ويستنشق مرةً بما معه، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة؛ فإنّ اتحاد الغُرفة والاقتصارَ على ماء واحدٍ، يدلّ على أنهما في حكم شيء واحد.
وقطع أصحابُ القَفّال أن ترتيب الاستنشاق على المضمضة مأمور به، والخلطُ يجري إذا قلنا: الترتيب ليس مأموراً به، والخلط وإن أجزأ إذا لم نشترط الترتيب ليس مأموراً به. هذا هو الصحيح.
ثم المبالغةُ في المضمضة مسنونةٌ وهي ردّ الماء إلى الغلصمة، وكذلك المبالغة في الاستنشاق، وهو تصعيد الماء بالنَّفَس إلى الخياشيم، من غير تكلّف شيء فيه إضرار، وإنما تُستحب المبالغة فيهما في حق غير الصائم، فأما الصائم، فمنهيٌّ عن المبالغة؛ قال النبي عليه السلام للقيط بن صَبِرَة: «أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً».
فصل:
80- غسل الوجه ركنٌ من الأركان في الوضوء، شهد له الكتاب، والسنة، والإجماع. وأول ما نعتني بذكره حدُّ الوجه.
نقل المُزني: أن حدَّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين، ومنتهى اللحية.
وهذا مأخوذٌ عليه؛ فإنه تعرّض لحد وجوه الملتحين، والغرض حدُّ الوجوه كلها.
والشافعي قال: "حد الوجه من منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين، ومنتهى اللحيين، وهما العظمان المكتنفان للوجه، يلتقي طرفاهما عند الذقن، وعليهما منابت الأسنان السفلى"
فإن قيل: ما ترون في الأصلع والأغمّ؟
قلنا: سنذكر المذهبَ فيهما، ولكنهما لا يخرمان الحدّ؛ فإن موضع الصلع منبتُ شعر الرأس، وإن انحسر الشعر عنه بسببٍ، والجبهة وإن نبت الشعر عليها ليست منبت شعر الرأس.
وذكر الأصحاب عبارةً قريبةً في ذلك، فقالوا: حدّ الوجه في الطول من منحدر تدوير الرأس أو من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يُقبل من الذقن، وفي العَرْض من الأذن إلى الأذن.
قال الشافعي: مواضع التحذيف من الوجه.
وهذه لفظةٌ فيها بعض الغموض. والذي مال إليه قلبي بعد البحث أن موضع التحذيف يحويه خطٌّ مبتدؤه الطرفُ الأعلى المقبل على الوجه من الأذن ومنتهاه الطرف الأعلى من الجبهة المتصل بالرأس، ونفرض هذا الخَطَّ مستقيماً بين هاتين النقطتين فيقع مورّباً في الباطن.
ولو قال قائل: التحذيف يحويه خطان محيطان بزاوية قائمةٍ، يذهب أحدهما طولاً من الطرف الأعلى من الأذن، حتى إذا حاذى أولَ تسطيح الجبهة انتهى، ثم يمتد منه خط إلى طرف الجبهة، كان أدخل في الوجه شيئاً من الرأس، فهذا ما أظُنّه، فإن وَقف مُوفَّق على مزيد بيان في ذلك، ألحقه بالكتاب.
وقد قيل: سئل الشافعي عن الوجه، فدعا بحالق حتى حلق موضع التحذيف منه، ثم أشار بيده إلى الوجه، فقد يظن أن على موضع التحذيف شعراً، وهو كذلك، ولكنّه ليس بالخشن. وهو الذي يعتاد النساء نتفه. ولو قيل: مواضع التحذيف هو الجبينان من جانبي الجبهة، ثم يُبَيّن منتهاهما الخطُّ المورّب الذي ذكرته، كان قريباً.
والنزعتان من الرأس، وهما خطان محيطان بالناصية.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن موضع الصلع من الرأس وفاقاً.
وأما موضع الغمم، فكان شيخي يقطع بإيجاب إيصال الماء إليه، ويعدُّه من الوجه، وهو ما ذكره الأئمة.
وذكر بعض الأصحاب أن شعر الأغم إن استوعب جميع الجبهة إلى الحاجب، وجب غسل الجميع، وإن أخذ بعضَ الجبهة، ففي وجوب غسل ذلك المقدار وجهان.
وعندي أن هذا على هذا الوجه غلط، والذي يدور في ظني منه: أن الأغم قد تخالف خلقةُ رأسه خلقة رأس غيره، فلا ينقطع شكل تدوير رأسه عند انقطاع شكل رأس غيره، بل ينتأ ويبدو شيءٌ من أوائل جبهته متصلاً بتدوير رأسه، وهو الذي يسمى الأكبس، ولكنه مقبل في صفحة الوجه، ومثل هذا لا يكون في جميع الجبهة.
فالوجه عندي في ذلك أن الجبهة إن كانت على شكلها في التسطيح، فيجب غسلها، سواء نبت الشعر في كلّها، أو في بعضها؛ إذ ليس بالشعر اعتبارٌ. وإن دخل في مرأى العين شيءٌ من صورة التدوير في حدّ الجبهة، فذاك فيه ترددٌ.
وعلى الجملة لا يتأتى استيعاب الوجه بالغسل إلا بأخذ أجزاء من الرأس؛ فإن الوقوف على حد الوجه مع تفاوت الخلق غير ممكنٍ، ولا داخل في المقدور، فهذا قولٌ، هو منتهى فكري في حد الوجه.
81- ثم يجب إيصال الماء إلى منابت شعورٍ خفيفةً كانت أو كثيفةً. وهي الحاجبان، والأهدابُ، والعذاران. وهما الخطان المحاذيان للأذنين، والشارب.
ثم علّل أئمتنا إيجاب إيصال الماء إلى منابت هذه الشعور بعلتين:
إحداهما: أنها تكون خفيفة في الغالب، فإن كثفت على ندور، فلا حكم للنادر.
والثانية: أن بياض الوجه محيط بهذه الشعور؛ فتلحق منابتها بالبياض المحيط بها. وهذا ظاهر في الحاجب والأهداب والشارب، والعذارُ كذلك، فإنه يُقبل على بياض الوجه من جانب، وبينه وبين الأذن خط أبيض، لا شعر عليه، وهو من الوجه.
82- وأما شعر العارض وهو ما ينحط عن الأذن، وشعر الذقن؛ فإن كان كثيفاً، لا يجب إيصال الماء إلى منبته، وإن كان خفيفاً، يجب. والخفيف: الذي يبدو منبته للناظر الجالس من المنظور إليه مجلس المخاطب. ويمكن أن يُقال: الكثيف هو الذي يحتاج في إيصال الماء إلى منبته إلى تكلّف.
83- ثم من الكلام البيّن الذي يتعين ذكرُه ما أذكره، وكم من بيِّن لا يُعتنَى به؛ ثم تعثُر فيه الأئمة عند مغافصة الأسئلة.
فأقول: المنبت الذي فصّلته في العارض والذقن هو ما يجب غسله من الأمرد والمرأة، فإذا ستره الشعر، ففيه ما ذكرته.
ثم كل شعر يجب غسل منبته يجب استيعاب جميع الشعر بالماء؛ إذا كان في حدّ الوجه، وحدُّ الوجه يُرجَعُ فيه إلى وجوه المُرْد، فإن وُجد، غُسِل المنبت، وما هو في حدّ الوجه. فلو طال الشعر، وخرج في جهته عن حدّ الوجه، فهل يجب إيصال الماء إلى منتهاه؟ فعلى قولين للشافعي:
أحدهما: يجب؛ حتى لا يتبعض حكم الشعر.
والثاني: لا يجب؛ فإن المغسول هو الوجه، أو الشعر الكائن في حده، فأما الزائد، فليس في حدّ الوجه. وللأول أن يقول: اللحية تعد من الوجه اسماً وإطلاقاً.
84- ولو كثف شعر الذقن، وقلنا: لا يجب إيصال الماء إلى منبته، فيجب إيصال الماء إلى ظاهر ما هو في حدّ الوجه، فأما الزائد، فهل يجب إمرار الماء عليه إلى منتهى اللحية؟ فعلى القولين المقدمين، ثم ذكر الزبيري صاحب الكافي فيما ذكره العراقيون: أنا إذا أوجبنا إفاضةَ الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية الكثيفة، فقد أوجبنا إمرار الماء على الوجه البادي من الطبقة العليا.
وهل يجب إيصال الماء إلى الوجه الآخر من تلك الطبقة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يجب حتى تصير الطبقة مستوعَبةً ظاهراً وباطناً. وهذا إنما وقع له من جهة أنا أوصلنا الماء إلى منبت هذه الطبقة في الجهة البادية.
وهو خطأ محض، لا ينبغي أن يُعد من المذهب.
85- وأما العَنْفَقَة، فإن كانت خفيفةً، وجب إيصال الماء إلى منابتها، وإن كانت كثيفة، ففيها وجهان؛ لترددّها في الشبه بين العذار والشارب، وبين شعر الذقن.
فرع:
86- غَسل الوجه ثلاثاًً مأمور به؛ والفرض غسلةٌ واحدة، إن استوعبت الوجه، والثانية والثالثة سنة.
فلو أغفل المتوضىء لمعةً في الغسلة الأولى، واعتقد أنه استوعب الوجه بها، فغسل ثانية وثالثة على اعتقاد السنة، واستوعب، ففي سقوط الفرض وجهان مشهوران، وهما مرتبان على وجهين، سبق ذكرهما فيمن نسي نية رفع الحدث، وأدى بقيةَ الطهارة على قصد التبرد. وسقوطُ الفرض فيما ذكرناه في الغسلة الثانية أوجَهُ، من جهة أن نية الوضوء مشتَملةٌ، فليست منسيةً، وهو إنما قصد السنة قصداً مبنياً على أن الأُولى استوعبت، وأما إذا نسي النية قُربةً، وجرد قصدَ التبرد، فليس للنية في ذكره جريانٌ أصلاً.
فرع:
87- إذا شك، فلم يدْرِ أغسل مرتين أو ثلاثاً، فالذي ذكره شيخي في تصنيفٍ له يسمى "التبصرة" أنه يقتصر على ما جرى منه، فإنه إن غسل مرة أخرى، كانت مترددة بين الرابعة-وهي بدعة-، وبين الثالثة، وتركُ السنة أهون من اقتحام البدعة، وليس كالمصلي إذا شك في أعداد ركعات الفريضة؛ فإنه يأخذ بالأقل؛ حتى يستيقن أنه قد أدى الفرض، والمشكوك فيه ليس بفرضٍ هاهنا.
وقال غيره: إذا شك، غسل غسلة أخرى؛ فالبدعة اعتمادُ غسلةٍ رابعة من غير سبب يقتضيه، وإذ ذاك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من زاد، فقد أساء وتعدّى وظلم»، على أن الغسلة الرابعة وإن كانت مكروهة، فليست بمعصية. وقوله: «أساء» معناه تَركَ الأوْلى، وتعدى حدَّ السنة، ووضَع الشيء في غير موضعه.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يخلل لحيته» وهي من السنن في اللحية الكثيفة. وإن كانت خفيفة، وجب إيصال الماء إلى المنابت، والشعور على التفصيل الماضي.
فصل:
88- غسل اليدين من أركان الوضوء، ويجب استيعابهما مع المرفقين. و "إلى" في قوله تعالى {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، محمول عند معظم العلماء على الجمع والضم. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «أدار الماء على مرفقيه»، ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به».
89- فإن قُطعت اليد من الكُوع، أو من نصف الساعد، يجب إيصال الماء إلى ما بقي من محل الفرض.
وإن صادف القطعُ ما فوق المرفق، سقط الفرض من هذه اليد بسقوط محله، ولكن لو أمسّ عضدَه ماءً، كان حسناً؛ فإنا نستحب للسليم أن يغسل شيئاًً من عضده، وهو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم تطويل الغرة، وقد يُظن أن سبب الأمر بغسل طرف العضد الاستظهارُ به ليتيقن غسل محل الفرض من اليد، وليس الأمر على هذا الإطلاق؛ فإن تطويلَ الغرّة سنةٌ مقصودة في نفسها، وإن كان يندرج تحتها استيقان الاستيعاب.
والدليل على أن غسل العضد مقصودٌ، أن من اعتلّ وجهُه، وعسر عليه إيصالُ الماء إلى محل الفرض، فلا يُستحب إيصال الماء إلى أجزاءَ من رأسه، لما يُرى غسلُها مع الوجه استظهاراً.
90- وإن صادف القطع مفصلَ المرفق، وهو مركب من منتهى الساعد، وطرف العضد، والطرفان متداخلان، فإذا انفصل عظمُ الساعد، وبقي من طرف العضد ما كان مداخلاً في طرف الساعد- فظاهر ما نقله المزني أنه لا يجب غسل ذلك؛ فأنه قال: فإن كان أقطعَهما من المرفقين، فلا فرض عليه فيهما.
وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: فإن كان أقطعهما فوق المرفقين، فلا فرض عليه فيهما.
فمن أصحابنا من غلّط المزني في النقل؛ فإن المِرفق عضوٌ مغسول، وقد سقط بعضُه، فوجب غسلُ باقيه.
ومنهم من جعل المسألة على قولين:
أحدهما: يجب غسل الباقي. وقد سبق توجيهه.
والثاني: لا يجب؛ لأن الغرض بغَسل المرفق ما فيه من عظم الساعد، وهو المقصود بالغَسل، ولكن لا يتأتى غسلُ ما يحاذيه من البَشرة إلا بغسل جميع المرفق، فإذا سقط عَظمُ الساعد، فقد سقَط المقصود، فسقط التابع.
وقال بعض أئمتنا: القولان مبنيان على أن اسم المرفق يتناول العظمين المتداخلين جميعاًً، أم يتناول طرفَ عظم الساعد فحسب ولكن مستقره طرف عظم العضد؟ فعلى قولين. وكل ذلك خبطٌ. والوجه القطع بإيجاب غسل ما بقي.
فصل:
91- إذا انكشطت جلدةٌ من الساعد، فإن تدلّت، فيجب غسلُ تيك الجلدة؛ فإن أصلها ثابت في محل الفرض، وقد صار ما ظهر مِمّا كان باطناً كالبشرة، وإن انقطعت الجلدة، واتصل طرفٌ منها بالعضد، والتصق به، والباقي منه متجافٍ، فيجب غسل كلا وجهيه من موضع التجافي، نظراً إلى أصله، ولا يجب قلعُ موضع الالتصاق، ولكن يجب إيصال الماء إلى الوجه الظاهر؛ لأن محل الالتصاق وإن كان تحته العضد؛ فإنها جلدةُ الساعد.
وذكر العراقيون أنه لا يجب غسل ما هو في حدّ العضد، وإنما يجب غسل ما هو في حد المرفق والساعد. وهذا غلط.
ولو تدلّت جلد من العضد، ولم تلتصق بالساعد، لم يجب غسلها، نظراً إلى أصلها. وإن التصق طرفٌ منها بالساعد، فلا يجب غسل شيء منها إلا الوجه البادي في محل الالتصاق؛ فإنا لا نوجب القلعَ، فنقيم ذلك القدرَ في محل الالتصاق مقام ما استتر به، ويجب غسل ما تحتها من الساعد في محل التجافي، لا محالة.
92- ونقل العراقيون نصاً للشافعي، وقالوا: قال رحمه الله: لو نبت لإنسانٍ يدٌ زائدة من عضده أو كتفه، فإن كانت بحيث لو امتدت، لم تحاذ شيئاًً من محل الفرض في اليد الأصلية، فلا فرض فيها، وإن كانت بحيث لو امتدت يحاذي طرف منها شيئاًً من محل الفرض في اليد الأصلية، فيجب غسلُ المقدار المحاذي؛ فإنه اجتمع فيه المحاذَاة واسم اليد، وهذا نقله بعض أئمتنا، كما نقلوه عن الإمام الشافعي، والمسألة محتملةٌ جدّاً؛ إذ محلُّ الفرض العضو الأصلي.
ولا خلاف أنه لو نبتت له سِلعةٌ من العضد، وكانت بحيث تمتد إلى الساعد، فلا يجب غسل شيء منها إذا كانت متدلية غير ملتصقةٍ. ولكن لم أر في المسألة إلا نقلَ النص للأصحاب.
93- ولو كانت يمينان لا يتبين الأصلية منهما، فيجب غسلُهما جميعاًً وفاقاً، وهذا في يدين التبس أمرُهما، ومنبتهما من الإبط. ولو كانت إحدى اليدين أصلية والأخرى زائدة، ومنبتهما دون المرفق، فيجب غسل الزائدة؛ إذ لو كانت سِلعةً، لوجب غسلها لكونها على محل الفرض.
فصل:
قال: "ثُمَّ يَمسَحُ رأْسَهُ ثلاثاًً... إلى آخره".
94- نذكر أقل ما يُجزىء من المسح، ثم نذكر أكمله. فأما الأقل، فالقول فيه يتعلق بمحل المسح، وبالمقدار المفروض منه.
فأما المحل فبشرة الرأس، أما الشعر النابت عليها إذا لم يخرج عن حدّ الرأس، فإن أوقع المسح على طرفِ شعير خارجٍ عن حدّ الرأس، لم يعتد به، وإن تساقط الشعر وزايل المنبتَ، ولكن لم يخرج عن حدّ الرأس، فيجوز إيقاع المسح عليه، فإنه في حد الرأس. ولو كان الشعر متجعداً، وكان تجعده في حد الرأس، ولكن كان بحيث لو مُدَّ، لخرج طرفُه عن حد الرأس، فالطرف الذي يخرج بالمدّ عن حدّ الرأس لا يجزىء إيقاع المسح عليه.
ويجوز إيقاع المسح على أصل الشعر، وما لا يجاوز منه حدّ الرأس، وإن لم يجز إيقاعه على الطرف الذي يخرج عن حَد الرأس.
95- فأما المفروض؛ فما ينطلق عليه اسم المسح، وإن قل.
والمعتمد الذي إليه الرجوع أن استيعاب الرأس بالمسح غيرُ واجب؛ إذ «مسح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بناصيته، وعلى عمامته»، ولفظ المسح غير مُشعرٍ في وَضع اللسان بالاستيعاب؛ فالمأمور به مسحُ بَعضِ الرأس، وهو ينطلق على ما قل وكثُر، والمصير إلى التقدير من غير توقيف تحكّمٌ، ثم قال الأئمة: لو مسح بعضاً من شعره، كفى؛ لتحقق الاسم.
96- وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب- اشتراط إيصال الماء إلى ثلاث شعرات، وهذا القائل أخذ مذهبه من اشتراط حلق ثلاث شعرات للتحلل من النسك، وهذا غلط؛ فإن الحلق في ألفاظ الشارع منوطٌ بالشعر، والشعر لفظُ جمعٍ؛ فَحُمِل على ما هو أقل الجمع.
والشعر ليس معنياً مقصوداً في المسح. ولو قيل: الأصل الرأس، والشعر قائم مقامه، وإن لم ينزل منزلة الأبدال، لم يكن بعيداً. وقد سقط إيجاب الاستيعاب، وبطل التقدير، فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم، والحلق متعلِّقٌ بالشعر لا محالة.
فرع:
97- لو غسل جزءًا من رأسه، سقط الفرض به وفاقاً؛ فإن المسح وإن كان هو المنصوص عليه، فالغَسل فوقه؛ فإجزاء المسح مُنبهٌ على الغَسل من طريق الأولى.
ولو بلّل الرجل يده، فلَطَم بها رأسَه، ولم يُجر ماءً، ولا أمرّ يداً، ففي سقوط الفرض وجهان:
أحدهما:وهو الذي اختاره القفال- أنه لا يجزىء؛ لأن المرعي فيه ما يسمى مسحاً، والذي ذكرناه ليس مسحاً ولا غسلاً.
والثاني: وهو الذي لا يتجه عندي غيرُه- أنه يُجزىء؛ لأن الغرض وصولُ الماء إلى الرأس، وقد تحقق، ولا يجوز أن يُعتقد تعبدٌ في كيفية إيصال الماء، وقد ظهر أن المقدار الذي ابتلَّ من الرأس كافٍ، فلا أَرَب في إمرار اليد، والقدر المبتل باللطم هو المقدار المبتل بهيئة المسح.
فرع:
98- فهمتُ من مجاري كلام أئمة المذهب تردداً في أن الغَسل هل يُكره إلحاقاً بالسرف في استعمال الماء؟
فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه سرفٌ كالغسلة الرابعة.
وصار صائرون إلى أن المسحَ في حكم التخفيف، فإن اتفق الغَسل، لم يكن سَرفاً. وهذا القائل يحتج بأن تكرير المسح بمياه جديدة إذا فرض على التوالي، يؤدي إلى الغسل؛ فإن الغسل إجراءُ الماء، وغالب ظني أن الماء يجري بهذا. ولم أر أحداً يستحب الغسل، ولو لم يكن الغسل في الشرع سرفاً، لكان محبوباً.
ولا خلاف أن غسل الخف بدلاً من المسح مكروه، فإنه تعييبٌ للخف بلا فائدة.
فرع:
99- إذا ألقى المسح على الشعر، ثم احتلق، فالذي قطع به الأئمة أن ذلك غيرُ ضائر؛ فإن سقوط محل الفرض بعد أدائه لا يردّ حكم الحدث؛ والحدث بعد ارتفاعه بالطهر لا يعود حكمه إلا بحدث.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران أنه نَزَّل حلق الممسوح من الشعر منزلةَ نزع الخف في حق الماسح، وهذا إنما تخيله من حيث إنه حسب الأصل في محل المسح بشرةَ الرأس، فقدّر الشعر بدلاً عنها، وهذا بعيدٌ جداً، وهو غيرُ محسوب من المذهب. ولو قَلَّم المتوضىء أظفاره، فقد بدا بالقَئم من الظُّفر ما كان مستترا بالجَلْق، فلا يجب إيصال الماء إلى البادي عن الظفر، وابن خيران فيما أظن لا يخالف في ذلك، وإنما بنى ظنّه في حلق الشعر على ما ذكرته من اعتقاده أن الأصل بشرة الرأس، ومثل هذا لا يتحقق في الظُّفر.
فهذا منتهى ما أردنا في ذكر المفروض من المسح.
100- فأمّا الأكمل، فاستيعاب الرأس بالمسح سنة، وقد فرضه مالك. ثم التكرار في مسح الرأس مستحب عن الشافعي بمياهٍ جديدة. فإن أراد أن يستوعب الرأس بلل يديه وألصق أطراف الأصابع بأطراف الأصابع، وبدأ بمقدمة رأسه ومرّ بهما إلى القفا، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم يأخذ ماءً جديداً ويمسح كذلك ثانية، وثالثة؛ وسبب ردّ اليدين من القفا إلى مقدمة الرأس أن الإمرار من الناصية إلى القفا يُضجعُ الشعورَ، ثم ردّهما يقلبها، فيحصل بالإمرار الأول والرد استيعابُ الشعور.
قال أبو بكر الصيدلاني: إنما يَرُدّ الماسح يَده من قفاه، إذا كانت على رأسه شعور تنقلب بترديد الماء. فأما إذا كان الرأس محلوقاً، أو كان عليه ذَوائب، فلا معنى لترديد اليد.
ولو مسح الرجل طرفاً من رأسه، ثم مسح طرفاً آخر، لم يكن ذلك من التكرار، وإنما هو مُحاولة الاستيعاب، والاستيعاب سنّة منفصلة عن التكرار.
وردّ اليد من القفا إلى الناصية من طلب الاستيعاب.
فرع:
قال: "ويمسح أذُنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد" وهذا كما قال.
101- مسح الأذنين سنة مؤكدة، ولابد من أخذ ماء جديدٍ لهما، ولو مسحتا بالبَلَل الباقي على الرأس، لم يعُتد بذلك، والأذنان عضوان على حيالهما، ثم المستحب إيصال الماء إلى داخل صدفة الأذنين وظاهرهما، فيأخذ المتوضىء البللَ بيديه، ويُدخل مُسبّحتَيهِ في صماخَي أُذنيه، ويُديرهما على المعاطف، وُيمرّ الإبهامين على ظهور الأذنين.
وكان شيخي يقول: يلصق بعد ذلك كفّيه المبلولتين بأذنيه طلباً للاستيعاب.
والتكرارُ محبوب في مسحهما، كما ذكرناه في الرأس.
وكان شيخي يذكر وجهين في أن مسح الرقبة سنّةٌ، أو أدبٌ، وكان يروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مسح الرقبة أمانٌ من الغُلّ» ويقول: "لم يرتض أئمةُ الحديث إسنادَه، وسببُ التردد في تسميته سنةً هذا".
ولستُ أرى لهذا التردد حاصلاً، ولم يجر مثلُه في غير ذلك، ولم يذكر الصيدلاني مسحَ الرقبة في كتابه أصلاً.
فصل:
قال: "ثُمَّ يغسِلُ رِجلَيه ثلاثاً... إلى آخره".
102- غَسْل الرجلين مع الكعبين من الأركان، والكعبان هما العظمان البارزان من الجانبين، وهما مَجْمع مفصل الساق والقدم، وعليهما الغَسل- كالمرفقين. ويجب إيصال الماء إلى خلل الأصابع، لا محالة، فإن استيقن المتوضىء ذلك، استحببنا مع ذلك تخليل أصابع الرجلين، وهو من السنن المؤكدة. وفي الأحاديث المتفق على صحتها ما روي أن لَقيطَ بنَ صَبرة قال للنبي عليه السلام: عَلّمني الوضوء يا رسول الله فقال: «أسبغ الوضوءَ، وخَلّل بين الأصابع، وبَالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً»، ثم صح في السُنة من كيفية التخليل ما سنصفه، فيقع التخليل من أسفل الأصابع، والبدايةُ بالخنصر من الرجل اليمنى، والختم بالخنصر من الرجل اليسرى، والتخليل يقع بالخنصر من اليد.
ثم لست أرى لتعيين اليد اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلاً، إلا نهي الاستنجاء باليمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الاستنجاء باليمبن إكراماً لها"، وليس تخليل الأصابع مشابهاً له، فلا حرج على المتوضىء في استعمال اليمين أو اليسار؛ فإن الأمر كذلك في غسل الرجلين، وخلل الأصابع جزء منها، ولم يثبت عندي في تعيين إحدى اليدين شيء.
فصل:
103- الترتيب مستحق في الوضوء، وترتيب اليسرى على اليمنى في اليدين والرجلين مستحب. ولا يمتنع أن يقال: ليس هذا من خصائص الوضوء؛ فإنه مأخوذ من قول عائشة رضي الله عنها «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء، حتى في تنعُّله إذا انتعل، وفي ترجُّله إذا ترجّل، وفي شأنه كله»، ولو ترك المتوضىء الترتيب ناسياً؛ فالمذهب أنه لا يُعتدّ بوضوئه.
104- وكان شيخي يحكي قولاً آخر في القديم أن الناسي معذور في ترك الترتيب، وكان يبني هذا على قول الشافعي، في أن من ترك قراءة الفاتحة ساهياً هل يُعذر؟
ويقول: وجه التقريب في ذلك أن قراءة الفاتحة تسقط عن المسبوق إذا صادف الإمامَ راكعاً، والترتيبُ يسقط عن المحدِث إذا اغتسل، كما سنشرحه؛ فاقتضى ذلك تقريباً بينهما في حق الناسي. وهذا عندي إن صح النقل عنه، فهو في حكم المرجوع عنه الذي لا يُعدّ من المذهب، أما الغسلُ، فلا ترتيب فيه أصلاً؛ فإن البدن فيه في حكم العضو الواحد.
ولو أحدث الرجل وأجنب، كفاه الغُسل، ولا يجب عليه إيصال الماء إلى أعضاء وضوئه مرتين، مرةً عن الوضوء، ومرةً عن الغسل، وذهب أبو ثور إلى أنه يجب أن يتوضأ ويغتسل، فنسب بعضُ المصنفين هذا إلى بعض أصحابنا، وهو غلط صريح.
ثم إذا اندرج الوضوء تحت الغسل كما ذكرناه؛ فقد اختلف أئمتنا في أنه هل يجب على المغتسل رعايةُ الترتيب في أعضاء الوضوء؟ فقال بعضهم: يجب ذلك؛ فإن الوضوء إنما يندرج تحت الغُسل فيما يوجد في الغسل، كما تتداخل العمرة في الحج فيما يوجد منهما في حق القارن، فيطوف طوافاً واحداً، ويسعى سعياً واحداً، ولا تداخل فيما اختص به أحد النسكين؛ فإنّ القارن يقف ويرمي ويبيت، وإن لم تكن هذه المناسك في العمرة. كذلك الوضوء يندرج تحت الغسل، فيما يتعلق بالغسل وإيصال الماء، فأما الترتيب فمما يختص الوضوء به، فيجب الإتيان به.
وقال بعضهم: لا تجب رِعاية الترتيب، وهو الأصح؛ فإن الترتيب ليس ركناً مقصوداً، وإنما هو هيئة وكيفية في أداء الأركان، فإذا اندرج فعل الوضوء تحت الغُسل، فرعاية الهيئة محال مع هذا، والوقوف والرمي والمبيت مناسك مقصودة، والعمرة تندرج تحت الحج، والحج لا يندرج تحت العمرة.
والذي يحقق ذلك أن العمرة لو انفردت، لم تفت، فإذا اندرجت تحت الحج، فاتت بفوات الحج؛ فاعتبار الترتيب بمقتضى الفوات أولى من اعتباره بمناسك مقصودة.
105- ومما يتصل بما نحن فيه أن من أحدث، ثم انغمس في ماء فغمره، ونوى رفع الحدث، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه لا يرتفع الحدث؛ فإنه لم يأت بهيئة الترتيب المأمور به في الوضوء.
والثاني: يرتفع حدثُه؛ لمعنيين:
أحدهما: أنه صيّر وضوءه غُسلاً، والغُسل أكمل من الوضوء، فكأن الشرع خفف عن المحدث أمر الطهارة، فاقتصر منه على غَسلِ أطرافٍ ومَسْح بعضها، فإذا آثر الغُسلَ، فقد رقى إلى الأعلى، فأجزأه، والغسل لا ترتيب فيه.
والمعنى الثاني: أنه إذا غمرهُ الماء؛ فإنه يترتب على أعضاء الوضوء في لحظاتٍ لطيفة؛ فيقع الترتيب، وإن كان لم يُعتمد.
106- وإذا انتهى الكلام إلى هذا المنتهى، فلابد من التنبيه لأصلٍ مهم، يوُضَّحُ بالسؤال والانفصال عنه.
فإن قيل: فلم شرطتم النية في طهارة الحدث؟ والنيةُ قصدٌ، ولابد في تقدير القصد من فرض فعلٍ مقصودٍ، وليس في طهارة الحدث فعلٌ مقصودٌ؛ فإن الجُنب إذا برز لموقع القَطْر، حتى استوعب بدنَه غسلاً، كفاه ذلك، فإذا لم يوجد منه فعل فما متعلّق قصده؟ قلنا: وقوفه حالّ محلّ غُسلٍ ينشئه.
فإن قيل: لو ألقي رجلٌ في غمرة، ونوى رفع الحدث فما مقصوده؟ قلنا: إيثارُه المقامَ في تلك الغمرة مقصودُه.
فإن قيل: فإن كان لا يُؤْثر المقام فيها، وهو يُغَط وُيغمس قهرآ- قلنا: من ضرورة نية رفع الحدث ربطُها بأمرٍ، وهو الكَوْنُ في الماء، ولو في لحظة، ويستحيل أن ينوي رفعَ الحدث لا بشيء. وإِن تناهى المصوّر في التصوير، ولم نُقدِّر للملقَى في الماء مقصوداً هو كونٌ أو مكثٌ، فقد رأيت للشيخ أبي علي أنه قال: لا يصح الوضوء؛ فإن النية لا تتحقق من غير تعليقٍ بأمر، فإن جمع بين قصد رفع الحدث وبين قطع النية عما هو فيه، فالنية لا تتحقق.
فإن قيل: أليس الصائم ينوي ولا يصدر منه فعلٌ؟ قلت: الانكفافُ عن المفطرات مما يتأتى ربطُ القصد والاختيار به، وهذا فيه احتمالٌ وإِشكال ظاهر، والذي يُشعر به كلام معظم الأئمة إِطلاق القول بأن النية تصحّ في حق الملقى في الماء من غير تفصيل؛ فإن الملقى إذا كان كارهاً لما هو فيه، فلا يمتنع أن ينوي رفع الحدث بما هو كاره له، والسر فيه أنه إِذا نوى رفع الحدث بما هو فيه، فيكون ما يلابسه مراداً له من وجه، ومكروهاً له من وجه.
وهذا مقامٌ يتعين إِنعامُ الفكر فيه.
107- وقد عُدنا إِلى ما كنا فيه من أمر الترتيب، فلو انتهى محدث إلى شَط نهر، واغتسل، فأوصل الماء إلى أسافله، ثم انتكس، فأوصل الماء إِلى أعاليه، ففي ارتفاع حدثه وجهان مرتبان على ما إِذا انغمس في ماء: فإِن حكمنا بأن الحدث لا يرتفع إِذا انغمس، فلأن لا يرتفع إِذا انتكس أولى، وإِن حكمنا بأنه يرتفع ثَمَّ، فهاهنا وجهان مبنيان على المعنيين المقدم ذكرهما.
فإِن قلنا: يرتفع حدث المنغمس لترتب الماء في أوقاتٍ لطيفة، فهاهنا لا يرتفع؛ لأنه نكس الغسل قصداً.
وإِن قلنا: يرتفع حدث المنغمس؛ لأنه جعل الوضوء غسلاً، فهذا المعنى متحقق في هذه الصورة.
فرع لابن الحداد:
108- قال تفريعاً على أن من أحدث وأجنب، لم تجب عليه رعاية الترتيب في أعضاء الوضوء: ولو أوصل المغتسلُ الماء إِلى جميع بدنه إِلا رجليه، ثم أحدث يلزمه أن يتوضأ، ثم يراعي الترتيب في الوجه، واليدين، والرأس، ولا يجب رعاية الترتيب في الرجلين لبقاء حكم الجنابة فيهما؛ ولا يجب الترتيب في طهر الجنابة؛ فإِن شاء قدم غسلَ الرِّجل على غسل الوجه، وإِن شاء أوقعه وسطاً؛ فإِن حكم الترتيب ساقط عنه.
فإن قيل: الأصغر يندرج تحت الأكبر، وإِذا بقي من غُسل الجنابة غَسْلُ الرجلين، ثم طرأ الحدث، فالوضوء الآن أكُمل ممّا بقي من الغُسل.
قلنا: ذكر الشيخ أبو محمد أن الترتيب يُراعَى في الرجل لهذا السؤال، ويتبع حكمُ الجنابة حكمَ الوضوء. وهذا وإِن كان فيه إِخالة في وجوه الاحتمال، فالذي ذكره الأصحاب هو المذهب المعتدّ به. وحكم طهر الجنابة على الجملة أغلب، وهو بأن يُستتبع أوْلى.
ثم الذي ذكره الشيخ أبو علي في الشرح أن المتوضىء في الصورة التي ذكرناها، إِن نسي حكمَ الجنابة في رجليه، ونوى رَفع الحدث فالجنابة ترفع عن رجليه في ظاهر المذهب، وإِن لم يتعرض لها؛ فإنّ أعيان الأحداث لا أثر لها، ولا يضرّ الغلط فيها.
وحكى وجهاً ثانياً، أن الجنابة لا ترتفع؛ لأن حكمها أغلظ من حكم الحدث الموجب للوضوء، والأعلى لا يرتفع بقصد الأدنى.
وهذا ضعيف مزيف، ثم بنى على ذلك أن الجنب لو انغمس في ماء مثلاً، ونوى رفع الحدث الأصغر، لا شك أن الجنابة لا ترتفع عما خلا أعضاء الوضوء؛ فإِن نيّته لم تشتمل عليه. وفي ارتفاع الجنابة عن أعضاء الوضوء وجهان:
أحدهما: لا ترتفع لما سبق من أن الأعلى لا يرتفع بالأدنى.
والثاني: ترتفع الجنابة عن الوجه واليدين والرجلين.
109- وأما الرأس، ففرض الوضوء فيه المسحُ، وفرض الغُسل فيه الغَسل، فهل يسقط فرض الجنابة عن الرأس؟ ذكر على هذا الوجه وجهين:
أحدهما: لا يرتفع؛ لأن نيته لم تتناول غسلَ الرأس.
والثاني: يرتفع؛ فإِن غسل الرأس في الوضوء يقوم مقام المسح، وهما جميعاً إيصال الماء.
وإِذا جُمع ما ذكره الشيخ الآن إِلى ما قدّمناه في باب نية الوضوء، من أن الغلط في النية من حدث إلى حدث هل يؤثر؟ انتظم منه أوجه:
أحدها: أن الغلط لا يضر أصلاً.
والثانٍ: أنه يؤثر ويُفسد النية.
والثالث: أن الأدنى يرتفع بالأعلى، إِذا فرض الغلط كذلك. والأعلى لا يرتفع بالأدنى، وهذا ما ذكره الشيخ الأب.
فرع:
110- إِذا خرج من الرجل خارجٌ، فلم يدرِ أمَنيٌّ هو، أم مَذْي، فلا يلزمه الغُسل؛ فإِن الطهر لا يلزم إِلا بيقين، كما سيأتي في بابه.
والمقدار المستيقن إِيصال الماء إِلى أعضاء الوضوء، ثم ظهر اختلاف الأئمة في أنه هل يجب رعايةُ الترتيب في هذا الوضوء؟ فقال قائلون: لا يجب؛ فإِن وجوب الترتيب غير مستيقن.
وهذا عندي غلط؛ فإِن من أتى بوضوءٍ منكس، فليس هو بمتطهر قطعاًً؛ فإِنه إِن كان جُنباً، فلم يغتسل، وإِن كان محدثاً، فلم يتوضأ وضوءاً مرتباً، فالوجه أن يغتسل، أو يأتي بوضوء مرتب.
ثم مما يُبنى على ذلك، أن المني طاهرٌ، وخروجه يوجب الغُسل، والمذي نجس، يوجب خروجُه الوضوء، فإِن أصاب الخارج المشكلُ الثوب أو البدن، فإِن اغتسل، ولم يغسل موْرِده، وصلى، جاز؛ أخذاً باحتمال كونه منيّاً، ولو توضأ وغسله، وصلى، جاز؛ لاحتمال كونه مذياً.
وإِن توضأ، ولم يغسل الخارج وصلى، فعلى الوجهين المذكورين في الوضوء المنكس، فمن أصحابنا من قال: يُجزئه، ويُحط الغَسل عنه؛ أخذاً بأنه منيٌّ.
ويحط عنه استيعاب البدن؛ أخذاً بأنه مذيٌ.
والوجه عندي القطع ببطلان الصلاة؛ لأنه لم يخرج عن موجَبِ واحدٍ من التقديرين، إِذا توضأ ولم يغسل بدنه وثوبه.
فصل:
قال الشافعي: "لو فرّق وضوءَه وغُسلَه أجزأه... إلى آخره".
111- التفريق اليسير لا يبطل الوضوءَ والغُسل، والتفريق الكثير لا يؤثر أيضاًً في القول الجديد.
وقال الشافعي في القول القديم: "التفريق الكثير يُبطل الغسلَ والوضوء". وهو مذهب مالك.
وذكر الأئمة أن الموالاة مشروطة في الصلاة، ولا يتبين ذلك إِلا بما نشُير إليه.
فالصلاة تشتمل على أركانٍ طويلةٍ وأركانٍ قصيرة، أما الطويلة، فالقيام، والركوع، والسجود، والقعود للتشهد، فمن تناهى في تطويلها، لم يضرّه؛ إِذ لا نهاية لآخرها.
وأما القصيرة منها، فالاعتدال عن الركوع، والاعتدال عن السجود، وكأنهما موضوعان للفصل، فالاعتدال على هيئة القيام يفصل الركوع عن السجود، والقعود بين السجدتين يفصل إِحداهما عن الأخرى، وترك الموالاة في الصلاة معناه تطويل الفواصل قصداً، وذلك مبطلٌ للصلاة على ما سنذكره. إِن شاء الله عز وجل.
112- توجيه القولين في تفريق الطهارة.
من قال: إن التفريق يبطل الطُّهرَ شبهه بالصلاة، ووجه الشبه أن الحدث يَنقُضهما.
ومن قال بالقول الجديد، احتج بأن أركان الوضوء لا رابط لها، والركن ينفصل عما بعده، والزمن القريب المتخلل بين الركنين ليس فيه اشتغال بالطهارة، فالأركان المقصودة فيها كأنها أفرادٌ منبترةٌ، لا ناظم لها، فهي كاقدار الزكاة، يفرّقها مستوعبها، فيتخلل بين المقدار والمقدار زمان، لا اشتغال فيه بالزكاة، ثم لا فرق بين أن يطول ذلك الزمان المتخلل، أو يقصُر، فلتكن أركان الطهارة كذلك.
فإن قيل: إِلى ماذا الرجوع في الفرق بين التفريق اليسير والكثير؟
قلنا: إِذا غسل المتوضىء عضواً، ثم أضرب حتى زال الماء، مع اعتدال الهواء والحال، فهذا كثير. ولا يُفرض ذلك مع برد الهواء، ولا مع الحرّ المفرط، فالوسط هو المعتبر بين الطرفين.
ثم ما ذكرناه في تفريقٍ يقع من غير عذرِ، فإن كان سببُ التفريق عذراً من خوفٍ أو نفادِ ماءٍ، فالأصح القطع بأن التفريق لا يُبطل الطهارة.
ومن أصحابنا من سوّى بين المعذور وغيره في تخريج المسألة على قولين.
وكان شيخي يتردد في وقوع التفريق بسبب النسيان، فتارة كان يُلحقه بالأعذار، وتارة كان لا يَعُد النسيان عذراً.
ومما يتعين الاعتناء بفهمه أن التفريق في الصلاة إِنما هو تطويلُ ركنٍ قصيرٍ كما سبق، ثم لو فرض تطويله بنسيان وذهولٍ، لم يُقضَ ببطلان الصلاة قولاً واحداً.
وبهذا يتبين اتجاه القطع بأن تفريق المعذور لا يؤثر في طهارته.
113- فإن قيل: لا يبقى مع ما ذكرتموه من كون الناسي المطوِّل معذوراً في الصلاة وجهٌ لتخريج تفريق المعذور على قولين.
قلنا: من طول ركناً قصيراً في الصلاة؛ فهو في الصلاة، وإِن طوّل ما حقه ألا يطول. وقد ذكرنا أن المتوضىء في الزمان الذي يتخلل بين الركنين ليس مشتغلاً بالطهارة، ومع هذا يُعد الوضوء قربةً واحدةً. فاِذا تخللت أزمنةٌ متطاولةٌ، ينبتر النظام فيها، بسبب أنه يتخللها ما ليس منها، وهذا يستوي فيه المعذور وغيره، وتخلل الأزمنة-على منع التفريق عندي- يتنزل منزلة الأعمال إِذا طرأت على الصلاة، فالقليل معفوٌ عنها، والكثير المتوالي على عمدٍ يُبطل الصلاةَ، وإِذا صدر الكثير مع النسيان، ففي المسألة وجهان، سياتي ذكرهما في الصلاة- إن شاء الله تعالى.
فهذا حقيقة القول في تفريق الطهارة.
ثم يستوي الغسل والوضوء في أمر التفريق. والوضوء يختصّ بالترتيب من جهة أن الترتيب إِنما يُصوّر فيما يشتمل على أركانٍ متغايرةٍ، وجميع البدن في الغسل كالعضو الواحد في الوضوء.
التفريع على قولي التفريق:
114- إن حكمنا بأن التفريق الكثير يبطل الوضوء، فإذا تخلّل، فسد الوضوء، ولزمه استئنافه. وإِن حكمنا بأن التفريق الكثير لا يبطل الوضوء، فإِذا فرق المتوضىء وضوءه، لم يبطل ما مضى، وله البناء على بقية وضوئه.
ثم اختلف أئمتنا في أنه هل يجب تجديد النية في بقية الطهارة؟ فمنهم من قال:
لا يجب، والنية الأولى كافية. ومنهم من قال: لابد من تجديد النيّة؛ فإِن الطهارة إِذا تفرقت، وعزبت النيّة، فلا يكون ما يأتي به على هيئة القربات، وإِذا عزبت النيّة وتواصلت الأعمال، انبسطت النيةُ عليها حكماً، وانتظمت القُربَة حسّاً.
وقد ذكرنا في باب النية أن من نوى رفع الحدث، وعَزَبَتْ نيتُه ونسيها، ثم قصد ببقية الطهارة تبرّداً وتنظّفاً، ففيه خلاف قَدّمتُه، وليس ما ذكرناه الآن في تفريق الطهارة على هذه الصورة، بل إِذا مضى صدرٌ من الطهارة، وتخلّل زمنٌ متطاول، فأتى ببقية الطهارة، والنيّة منسيّة، ولم ينو بالبقية تبرّداً، ولا غرضاً آخر يخالف الطهارة، ولكن انضم إِليه التفريق، ففيه الخلاف.
فرع:
115- إِذا فرق المتوضىء النيةَ على أعضاء وضوئه، فنوى عند غَسل الوجه رفعَ الحدث عن وجهه، وهكذا فعل في باقي أعضائه، ففي صحة الوضوء وارتفاع الحدث وجهان.
وكان شيخي يبنيهما على القولين في تفريق الوضوء فعلاً، ووجه البناء أنا إِذا منعنا التفريق، فالطهر قربة واحدة؛ فينبغي أن يشتمل عليها نية واحدة.
وإِن قلنا: يجوز التفريق، فقد قدّرنا كلَّ فرض قربةً بنفسه، كالأقدار التي يفرقها من يستوعب الزكاة، فلا يمتنع تقسيط النية عليها.
والوجه عندي أن يقال: إِن منعنا التفريق فعلاً، لم يجز تفريق النية وتقسيطها.
وإِن جوزنا التفريق فعلاً، ففي تجويز تقسيط النية وجهان:
أحدهما: الجواز، والثاني: لا يجوز؛ فإِن الوضوء-وإن جُوّز تفريق أركانه- قُربةٌ واحدة يرتبط حكم أوله بحكم آخره؛ فإِن من غسل وجهه، لم يقض بارتفاع الحدث عن وجهه، ما لم يتمم الوضوء؛ إِذ لو أراد مسَّ المصحف بوجهه المغسول، لم يجد إِلى ذلك سبيلاً.
فصل:
116- قال الأئمة: "الأولى ألا ينشِّف المتوضىء أعضاء وضوئه".
قالت ميمونة: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنديل ينشّف به أعضاء طهارته، فأشار بيده، ولم يمسه».
ولو نشف، لم ينته الأمر في ذلك إلى الكراهية، ولكن يقال: تركَ الأوْلى.
وقد روي «أنه عليه السلام نشَّف أعضاء وضوئه مرة»، وكان عليه السلام يواظب على الأوْلى، ويأتي بما هو جائز في الأحايين، فيتبين الأفضل بمواظبته، والجائز بنوادر أفعاله.
قال العراقيون: لم يصر أحد إِلى أن التنشيف مستحب، والظاهر من مذهب الشافعي أن الأولى تركُ التنشيف. وهذا من كلامهم إِشارة إلى خلافٍ في ذلك، فكأن طائفةً قالوا: لا يترجح التنشيف على تركه.
وقد روى الصيدلاني: «أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقةٌ ينشِّف بها».
وليس هذا بعيداً عن مسالك الإِمكان؛ فإن الذي لا ينشف إِن كان مُبقياً لأثر العبادة، فالمنشِّف متوقٍّ عن التصاق الغبرات بأعضاء وضوئه.
117- فأما الاستعانة، فالأولى تركها، والأجر على قدر النصب، وقد روي «أن النبى صلى الله عليه وسلم استعان في وضوئه مرة واحدة بالمغيرة»، والسبب فيه أنه كان لهٌ جُبة ضيقة الكُمّين؛ فعسر عليه الانفراد بإِسباغ الوضوء معها، فاستعان.
118- وكان شيخي يَعُدّ عند نجاز كيفية الوضوء فرائضَ الوضوء وسننَه.
فأما الفرائض، فستٌّ في قولٍ، وسبعٌ في آخر: النيةُ، وغَسلُ الوجهِ، وغَسلُ اليدين كذلك، وما ينطلق عليه اسمُ المسحِ في الرأس، وغَسلُ الرجلين مرة واحدة، والترتيب، والموالاةُ على أحد القولين.
وأما السنن إِذا جمعت، فهي أربعَ عشرةَ في قولٍ، وخمسَ عشرةَ في قولٍ: التسمية، وغسل اليدين قبل غمسهما، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق: والمبالغة فيهما، إِلا أن يكون صائماً، والتثليثُ في المغسول والممسوح، وتقديم الميامن على المياسر، وتخليل اللحية، وتطويل الغرة، واستيعاب الرأس بالمسح، ومسح الأذنين، ومسح الرقبة، وتخليل أصابع الرجلين، والموالاة على أحد القولين.
فصل:
قال: "ولا يحمل المصحفَ ولا يمسه إلا طاهراً... إلى آخره".
119- يحرم على المحدث مسُّ المصحف، ويستوي في التحريم الأسطر، والحواشي، والدفَّتان. ولو كان في غلاف هُيىّء له، أو صندوق مستصنعٍ له، ففي مس الصندوق المخصوص به، وفي الغلاف، وفيهما المصحف وجهان:
أحدهما: المنع كالدفَّتين.
والثاني: التجويز؛ لأنهما ليسا من أجزاء المصحف.
ولا يحرم على المحدث قراءة القرآن عن ظهر القلب، والأولى أن يكون متطهراًً.
فإِن قيل: هل تطلقون لفظَ الكراهية على قراءة المحدث؟ قلنا: لا، وكيف ينساغ ذلك وقراءة المحدث عن ظهر القلب من أفضل القربات؟ ولكن الوجه أن يقال: القراءةُ في حال التطهر أوْلى، فلو كان يقرأ القرآن ناظر إِلى المصحف وكان متطهرٌ يقلّب له الأوراق، فلا بأس. وكان سعد بنُ أبي وقاص رضي الله عنه يقرأ ناظراً، وابنه يقلب له، فأدخل يده تحت ثيابه، فقال له: "قم فتوضأ؛ ما أراك إلا وقد مسست ذكرَك".
ولو كان المحدث يقلب الأوراقَ بقضيب، فيه وجهان: والأظهر المنع؛ فإِنه وإِن كان لا يمسّ، فهو إِذا قلّب ورقة، كان في حكم الحامل لها، وحرام على المحدث حملُ ورقةٍ من المصحف، سواء مسها في الحمل، أو حملها في غلاف. ولو ستر يدَه بطرف كمّه، وأخذ يُقلب، فالوجه القطع بالتحريم؛ فإن التقليب يقع باليد، لا بالكم.
ومن ذكر في ذلك خلافاً، كالخلاف في التقليب بالقضيب، فهو غالط. هذا في مسّ المحدث.
120- فأما القول في الحمل، فيحرم على المحدث حملُ المصحف في غلافٍ، ومجرّداً عنه؛ فمهما حمله مقصوداً، عَصى، سواء فُرض حائل من غلاف أو عِلاقةٍ، أو لم يُفرض.
ولو حمل صندوقاً، فيه أمتعةٌ، وفي جملتها مصحفٌ، وهو عالم به، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يعصي؛ فإنه لم يحمل المصحف مقصوداً.
والثاني: يعصي؛ فإنّ المصحف من جملة المقاصد، فإن كان تبعاً، لم يخرج عن كونه مقصوداً.
121- واختلف أئمتنا في أنه هل يجب على القُوَّام أن يُراعوا حفظَ الطهارة على الصبيان في مسِّهم المصاحفَ، والألواحَ؟ قال الصيدلاني: هذا الخلاف يقرب من حمل الصندوق وفيه أمتعة سوى المصحف؛ فإِن الصبي ليس له قصد صحيح في الشرع، فكان ضعفُ قصده في الشرع كتوزعّ القصد من الحامل على ما في الصندوق.
وهذا غير صحيح؛ فإِن قصدَ الصبي في العبادات التي هو من أهلها كقصد البالغ؛ إِذ لو تكلم في صلاته عامداً، بطلت صلاتُه، وألزمه قيّمُه إِعادةَ الصلاة، فالوجه أخذ المساهلة في باب الطهارة عند المس من تعذّر رعاية ذلك؛ فإِن الطهارة إِن روعيت عند الصلاة، لم تعسر، ومراعاتها في معظم ساعات النهار عسرٌ، والصبي قد يمس المصحف في معظم النهار.
122- فلو لمس المحدث، أو حمل درهماً على نقشه آية، أو ثوباً على طرازه آية، أو كتاباً فيه آيٌ، أثبتت للاحتجاج، أو للتيمن، لا لدراسة القرآن، لم يعصِ، ولو مسّ، أو حمل لوحاً عليه آية، أو بعض آية للدراسة والتلاوة، عصى ربّه؛ فإِنه يصير مجرِّداً قصده إِلى حمل شيء من القرآن مكتوبٍ عليه، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل، وضمنه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] وعلم أنْ الكتاب تتداوله أيدي الكفار، وهم على أحداثهم وجنابتهم.
فصل:
قال: "ولا يُمنعُ من قراءة القرآن الا جنبٌ... إلى آخره".
23- يحرمُ على الجنب من المسِّ والحمل ما يحرم على المحدث. ويحرم عليه قراءة القرآن عن ظهر القلب، ولا فرق بين الآية وبين بعضٍ منها، ولو قال: الحمد لله أو بسم الله، فإِن قصد قراءة القرآن عَصى، وإِن قصد ذكر الله والتيمن به، لم يَعصِ.
وإِن أجراه على لسانه، ولم يقصد ذكراً، ولا قراءةً؛ فقد كان شيخي يقول: لا يعصي، ويخص تعصيتَه فيه بما إِذا قصد قراءة القرآن. وهذا مقطوعٌ به؛ فإِن القصدَ مرعي في هذه الأبواب. وما ذكرناه في الفصل بين أن يقصد وبين ألا يقصد فيما يوجد في الأذكار، ويجري في القرآن.
124- فأما الحائض، فإنها كالجنب في المنع من قراءة القرآن.
وحكى أبو ثور عن أبي عبد الله أنه كان لا يُحرّم قراءة القرآن على الحائض.
والظاهر أنه عنى بأبي عبد الله مالكاً. وحمل بعضُ الأصحاب ذلك على قول الشافعى. فإِنه يُكنَى بأبي عبد الله. وهذا بعيد.
ثم فرَّع هؤلاء على هذا القول الضعيف تردداً في أنَ تحليل القراءة يختص بالمعلِّمة المحترفة بتعليم القرآن، أو يَعُمّ النسوة؟ فقال قائلون: يختص بالمعلّمة؛ لضرورة الاكتساب؛ وقد يستوعب الحيض شطرَ عمرها، فهو إِذاً يقتصر على ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض.
وقال آخرون: يعمّ التحليلُ كافّةَ النسوة على هذا القول؛ فإن المعلمة إِن تحققت فيها حاجةُ التعليم، فغيرها قد ينسى القرآن، فإِذاً على هذا هي كالطاهرة، فلتقرأ ما تشاء؛ إِذ ليس لما يطرأ في حق النسوان من النسيان ضابط، وتقدير.